الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (164): {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}{وَإِذْ قَالَتِ} عطف على {إذ يعدون} [الأعراف: 163] مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات.قال العلامتان الطيبي والتفتازاني: ولا يجوز أن يكون معطوفًا على {إذ تأتيهم} [الأعراف: 163] وإن كان أقرب لفظًا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك، وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر، وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الاستقلال، واستظهر في بيان وجه ذلك ان زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض، والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه {أُمَّةٌ مّنْهُمْ} أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهدًا في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ} أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم {أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} دون الاستئصال بالمرة، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من الاهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان، وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر العجيب لا يدري سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه، وقيل: إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض: لم نشتغل بما لا يفيد، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل حضر من القوم فيكون متضمنًا لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم الخوف والخشية، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا: تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب، وفيه بعد كما ستقف عليه قريبًا إن شاء الله تعالى: {قَالُواْ} أي المقول لهم ذلك {مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ} أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقيل: هو مفعول به للقول وهو وإن كان مفردًا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتقذر به. والمعذرة في الأصل عنى العذر وهو التنصل من الذنب، وقال الأزهري: إنه عنى الاعتذار، وعداه بإلى لتضمنه معنى الانهاء والإبلاغ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم، وقرأ من عدا حفص.والمفضل {مَعْذِرَةً} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك، قال شيخ الإسلام: وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون إلخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب اه.وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر..تفسير الآية رقم (165): {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بما كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضًا كليًا، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر.والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازًا مرسلًا لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعضهم المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه انجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الانجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا {لم تعظون} [الأعراف: 164] إلخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضًا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهى وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي ورا وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثًا منك ولم يكن إلا سببًا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم} [الكهف: 6].وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} وقوله جل وعلا: {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة: جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكر، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفًا من بؤس يبؤس بأسًا إذا اشتد.وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقرة والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ أبو بكر {بيئس} على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه {بيئس} بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر {بالالقاب بِئْسَ} بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع {بيس} على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل دم جعلت اسمًا كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرئ {بيس} كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل اعلاله و{بيس} على التخفيف كهين و{بائس} بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرئ غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل {السماء بما كَانُواْ يَفْسُقُونَ} متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببًا للأخذ كما كان سببًا للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضًا، ولم يكتف بالأولى لما لا يخفى..تفسير الآية رقم (166): {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}{فَلَمَّا عَتَوْاْ} أي تكبروا {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والأباء عن المنهى عنه لا يذم {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلًا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعًا بيضًا سمانًا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء الله تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلًا منهم أخذ حوتًا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذخ وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثًا كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الانس ولم تعرف الإنس انسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاث. وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير، وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفعهم الحق. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتًا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدًا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعة حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكله أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابًا في الآخرة وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عز وجل جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطئ البحر الذي هم عنده ضمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخرة لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك إن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوه فيه فإذا ذهب اليوم فشأنكم به فصيدوه فابتلى القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لأن قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطئ الفرات السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل».
|